هذه المرّة لم تغدر بنا اسرائيل… هذه المرّة انتحرنا

“عدّد السبب المباشر لاندلاع الحرب العالمية الأولى.” إن سُئل أي شخص برتبة مواطن لبناني، منذ أكثر من حرب، سيكون الجواب بكل تلقائية وبساطة: اغتيال ولي عهد النمسا.بمقدار براءة السؤال وصدق إجابته، يكمن الاغتيال التاريخي والسياسي لكل فرد منا، بحرماننا من حق المعرفة. لذا لنتوقف برهة بين صفحات كتب التاريخ البالية، ولنسأل السؤال الذي منعتنا إدارة مدارسنا عن سؤاله، رجال الدين وكل من يختلف عنا، كي لا نتهم بجريمة جرح مشاعره، بسبب اختلاف مذهبنا، عقيدتنا السياسية والزعيم الذي إليه نوجه صلواتنا. ما هي الشرارة الأولى للحرب الأهلية اللبنانية؟

إن هذا النص سيكون جامعاً لبعض من نكسات بيروت، الشعر الحديث ونانسي عجرم!

بيروت يا بيروت يا قصة بصندوق فرجة كبير!


فلنترك التاريخ لأصحابه، نسائه ورجاله. في هذا النص لن نقف على أطلال بيروت المنكوبة، ولن نسأل عن سارق أساورها الذهبية ولا في أي بلد هي، ماذا تفعل وبماذا تشعر، وكيف باتت تسرح شعرها الأسود دون مشطها العاجي؟ في هذا النص سأسلخ ذاتي عنه، ولن يدور حول هالة الكاتب العظيم: بيروت يا بيروت يا قصة بصندوق فرجة كبير!
الاقتتال الأول
يمكن وصفه بأنه اقتتال التكوين الأول، يظهر فقط في شكله المتعارض، أي يكون الحضور على خلفية من الغياب: كالحب والحقد والحياة والموت.

في كتاب الدكتور عدنان حب الله، يقدم لنا الكبت الأصلي (القديم) على أنه حاضر في كل نشاط بشري، وبمقدار ضبطه يكون السلم بين الجماعات، وفي حالة العنف المتأصلة فينا، وعند أيّ انزلاق في الخطاب وأي إشهار لما يرفض الآخر سماعه ويرفضه فينا، يُستعاد المكبوت بطريقة أعنف وأقوى مما قد كان عليه قبل الكبت.

في بعض الأحيان قد تسمع صوت دويّ الانفجار وهدير الطائرات، وقد تركض أثناء نومك، وكل هذه الأعراض تثبت أنك لبناني، منذ أول حرب حتى انفجار 4 آب


ويدعم غياب القانون هذا الشعور بالاضطهاد، حتى أصبحت كل جماعة تعتبر نفسها أقلية مستضعفة، رغم أنها في بعض الأحيان قد يتجاوز عددها الثلث. ولكن ماذا نقول في بلاد نخاف إعلان إحصاء عدد سكانه، كي لا نغرق خمسين عاماً أخرى في حرب دموية. إن الحرب الأهلية قدر مكتوب على البلدان النامية، التي لم تبلغ بعد نضجها السياسي الاقتصادي والاجتماعي.

عند التعمق بالمشهد أكثر، يبدو واضحاً أن مسلسل الاغتيال و”بوسطة عين الرمانة الشهيرة” لم يكونا سببا لحرب أردت 120 ألف شخص، و17 ألف زهرة بيلسان، ووصمت البعض الآخر بصدمة تترجم اليوم بقلق وخوف مستمر. وفي بعض الأحيان قد تسمع صوت دويّ الانفجار وهدير الطائرات، وقد تركض أثناء نومك، وكل هذه الأعراض تثبت أنك لبناني، منذ أول حرب حتى انفجار 4 آب.

تخبرني جدتي كيف كانت سنوات الحرب وأطفالها السبعة مضنية، وكيف يكون الهرع بالوثائق الرسمية وعلب الحليب، وكيف سلمت أعينهم من القناصين وأجسادهم من خردقة الرصاص من الشارع المجاور والنيران الصديقة! كيف تصبح بيروت كرنافالاً للجنون والدماء، ولجثث لا يزال أصحابها يبحثون عنها. تقص لي كيف يكون الركض بينها، وقد تتعثر أحياناً بابتسامة تعرفها: ذاك بائع الكعك وهذا بائع الكرابيج وهذا جاري وأيتامه الأربعة.

ولكن ماذا نقول في بلاد يخاف إحصاء عدد سكانه، كي لا يغرق خمسين عاماً أخرى في حرب دموية؟


عندما انفجرت الحقيقة في وجوهنا
لم يتغير شيء لديها عند سماعها دوي انفجار 4 آب، هربت مسرعة الى “الضيعة”، لكن هذه المرة دون أطفالها السبعة، وحيدة مع جدي وراديو صامد منذ حرب تموز 2006 لم يفارقها يوماً، كصوت الرصاص أو الطنين الذي يرافقها منذ ساعة النوم حتى ساعات الصباح الأولى. الأطباء يظنون أنها تعاني مشكلة في السمع وأنا أظن بأن الحرب باتت تسكن أذنيها، وقد قضمت قطعة منها.

لم يكن انفجار المرفأ حدثاً عابراً كباقي الحوادث التي تحصل هنا، لم ينفجر الفساد فقط، بل انفجر ما هو أعظم: كبت قديم خلّف مجزرة، ولكن بطريقة أسرع، حصيلته حوالي 200 قتيل، وجرح أكثر من 6 آلاف وتشرد 300 ألف شخص. لكن الحقيقة كانت مختلفة، كان عدد كل قتيل يتضاعف في قلوب الأمهات، كان الموت يقترب منهن أكثر كل ما ابتعدت صورة أولادهن عن أعينهن، وكانت الإصابات تفوق عددها في كل مرة نظر أحدهم إلى وجهه المشوه أو رجله المبتورة، وفي كل مرة نتفقد فيها أجزاء جسدنا، خوفاً من انفجار صامت داخلنا!

هكذا ولدنا من رحم فينيق فاسد وهمي، يعاني فصاماً حاداً. ظناً منه أن إحدى شخصياته هي صورة عن إله ما، وشعبه شعب الله المختار. هكذا نموت منسيين، مجرد قتلى وضحايا للجغرافيا. “ورجعنا كالعصافير التي ماتت من الغربة والبرد، ولكي نبحث عن خمسين ألفاً قُتلوا من غير معنى، ولكي نبحث عن أهل وأحباب لنا ذهبوا من غير معنى، لو جاء السلام ورجعنا، فمن الجائز يا بيروت ألا تعرفينا، قد تغيرت كثيراً وتغيرنا كثيراً وكبرنا نحن في عامين آلاف السنين”.

نزار قباني ونانسي عجرم، وما بينهما: بيروت مدينة منكوبة

لعل نزار قباني من أكثر الشعراء الذين حملوا بيروت الأنثى، الثورة والضحية على كاهلهم، وفي كل موت لها يكمن موت معنوي لهم، إلا أنها في كل مرة كانت تنهض من تحت الردم، كشاعر ينطفئ خياله.

يتلازم نزار وبيروت كعاشقين، كهارب في أحد فنادق العشاق، وهي المأوى والسرير وحب طفولي ينضج على نار هادئة، كلاجئ عربي وخيمة الترحال.

لم يتغير شيء منذ اثنين وعشرين عاماً، رحل نزار، بقيت الكلمات، بقيت الحرب: تجددت، تمددت، تمردت، وانتقل الإرث المكتوب الى فيديو كليب

في عام 1978، مزق ديوان “إلى بيروت الأنثى مع حبي” صدر الشاعر الكبير، وخرج مستبيحاً آلامنا وعواطفنا مادة موجعة. لعل ما تناوله في أشعاره كان الطريقة الوحيدة لامتصاص الصدمة وفهم ما يجري هنا. كانت الطريقة الأكثر رومانسية وشاعرية لإدراك أننا وسط مجزرة جماعية!

آه يا عشاق بيروت القدامى، هل وجدتم بعد بيروت البديلا؟

إن بيروت هي الأنثى التي تمنح الخصب وتعطينا الفصولا

لم يتغير شيء منذ اثنين وعشرين عاماً، رحل نزار، بقيت الكلمات، بقيت الحرب: تجددت، تمددت، تمردت، وانتقل الإرث المكتوب الى شعر مغنى وفيديو كليب.

بين “أطبطب وادلع” وقصيدة “إلى بيروت الأنثى مع الاعتذار”، تعتلي نانسي عجرم الهضبة، وتصنع مجداً نسجه نزار. لا شيء يبقى أو يزول، لم تبق حرب واحدة كما هي ولم تختف كغيمة صيف عابرة.

بقيت قصيدة نزار الفارس العربي الوسيم، يحمل قلمه المرتجف، يلقي لنا ماضينا، حاضرنا وغدنا، سيّان ثلاثتهما، يقرأ الفنجان، في هذه المرة يلوح في الأفق، ويغيب منذ عشرين عاماً، بقيت قصيدته الوحيدة بين المتفجرات والأشلاء، وكلماته اليتيمة بين شفاه نانسي عجرم وجيل الألفين الصاعد.”هذه المرة لم يغدر بنا جيش اسرائيل بل انتحرنا”!

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22