الآن وأكثر من أي وقت مضى، ينتظر الناس للاستماع لتنبؤات العرّافين، كما انتظر فلاديمير واستراغون في مسرحية سامويل بيكيت “في انتظار غودو”، الخلاصَ الذي لم يأت أبداً. ينتظر الناس اليوم، غداً وما بعد غد، لتصبح التنبؤات وعوداً أو صلوات. فالتنبؤات التي تتحقق تثبت القدرات الإعجازية للعرّافين، وتلك التي لا تتحقق تُنسى أو يعفى عنها.
قبل أن نبدأ بتحدي مصداقية العرّافين في لبنان، علينا أن نعي التأثير الثقافي الذي يمتلكه هؤلاء في مكان يتأرجح حول الاستقرار. فالعرّافون أصبحوا جزءاً من ثقافة المجتمع، رغم أن الكثير من اللبنانيين يسارعون إلى رفضهم، باعتبارهم مخادعين واستعراضيين، يهيمنون على المشهد العام، خاصة في الليلة التي تسبق السنة الجديدة، عندما يتنبؤون بمستقبل البلد، وأحياناً، يذهبون أبعد من ذلك، فيتنبؤون بمستقبل الولايات المتحدة وأوروبا.
الآن وأكثر من أي وقت مضى، ينتظر الناس استماع تنبؤات العرّافين، كما انتظر فلاديمير واستراغون في مسرحية سامويل بيكيت “في انتظار غودو”، الخلاصَ الذي لم يأت أبداً
الزعماء الدينيون يعتبرون مهنة العرافة معارضة للدين، متبنين بذلك لغة النبي المقنعة بالغموض، لكن من المعروف أنه، على مرّ التاريخ وفي وأماكن مختلفة، يلجأ الناس في الأوقات العصيبة إلى العرّافين أكثر من لجوئهم إلى شخصيات دينية. العرّافون يتنبؤون بالمستقبل، ويقدمون أجوبة لأسئلة لا يمكن سوى للوقت أن يعالجها. وعندما يتوقعون، عادة ما يستخدمون مصطلحات متعلقة بالمجموعات النجمية، لإضفاء جوٍّ من الأهمية والمعرفة، ومع ذلك فإن لغتهم غامضة، تترك المشاهد ضعيفاً، منشدّاً لمعرفة مصيره.
هذه المهنة، هي حتماً ليست من ابتكار الحضارة اللبنانية ولا هي حصرية فيها.
هل أصبح العرّافون جزءاً من ثقافة المجتمع اللبناني، رغم أن الكثير من اللبنانيين يعتبرونهم مخادعين واستعراضيين؟
يعود تاريخ علم الفلك إلى ما قبل نحو 2400 سنة في بابل، حيث وُجدت مخطوطات عن أولئك الذين وثّقوا وحلّلوا كيف يتغير موقع الشمس والقمر والكواكب مع مرور الوقت. عُرف عن القادة العظماء استشارتهم للعرّافين قبل المعركة أو قبل الشروع في سفر طويل، وهؤلاء القادة كانوا يطلبون من العرّافين أن يسحروا بتعويذاتهم الأشخاص الذين يشكلون تهديداً لسلطانهم.
في مقال له عن العرّافين، يشرح دفين ج. ستيوارت كم كانوا مهمّين في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وكيف كانوا يتلقون الوحي من روحٍ ما، مستخدمين مفردات مبهمة، رتّلوا الصلوات، الأدعية، اللعنات ومُنحوا المكافآت لقاء خدماتهم. العرّافون تم رفضهم من الإسلام واعتبارهم “أنبياء كاذبين”.
إذن، كيف لا يزال العرّافون ناشطين في عصرنا الحالي؟ وكيف نجدهم ضرورة في بلد كلبنان، نصف سكانه من المسلمين تقريباً؟ البعض يجادلون بالقول إن أداءهم يحفظ السلامة العقلية للناس الذين يعيشون في بلد غير مستقر. أن تعلم أن أشخاصاً يتنبؤون بالمستقبل يعني أن تعلم أن هناك مستقبلاً. اللبنانيون ليسوا وحدهم من يجدون ملجأً لهم في نبوءات العرّافين.
في العام 1994، ناقش مقال لكريس هيدجيز في نيويورك تايمز، تحت عنوان “الخطرُ يجعل الجزائريين يلجؤون للعرّافين”، التأثيرات النفسية لـ 5000 عراف مسجلين قانونياً، على معظم الجزائريين. عوضاً عن محاولة تخطي العار الذي يرافق زيارة الأطباء النفسيين، يجد الناس أن زيارة العرافين هي العلاج. يشير المقال أيضاً إلى أن النبي محمد حرّم على أتباعه استشارة العرافين عندما قال: “كذب المنجّمون ولو صدقوا”. صحيح أن الخوف يجعل الناس يسارعون باللجوء إلى الخرافات.
من الملاحظ أنّ الناس يلجأون في الأوقات العصيبة إلى العرّافين أكثر من لجوئهم إلى الشخصيات الدينية ذلك لأنّ العرّافين يدّعون الاطّلاع على المستقبل ومعرفة بعض تفاصيله، فيقدّمون إجابات للناس على أسئلة لا يملك غيرهم الإجابة عنها
في رواية “ليون الأفريقي”، يكتب أمين معلوف: “…الرجل ضعيف جداً في وجه القدر، فلا يستطيع منع نفسه من الانجذاب للأشياء التي يغطيها الغموض”. التقاليد الرائجة، كاستضافة العرّافين والاستماع لتنبؤاتهم، تطورت عندما بدأ هؤلاء بتحذير الناس من أحداث مخيفة. عندما تنبأ العرّاف اللبناني الشهير بموت رئيس وزراء، أراد الناس أن يصدقوا أن شخصاً ما يستطيع أن يهيّئهم للأحداث المزعجة. يشير هيدجيز كيف أن المثقفين يقصدون العرافين سراً. في مقالة أخرى نشرت في نيويورك تايمز في العام 2007، تحت عنوان “ازدهار سوق العرّافين اللبنانيين”، كتب حسن م. فتّاح، عن هؤلاء “اللاعبين السياسيين” كما أسماهم. أشار إلى غرورهم وروح التنافس التي لديهم، والشيء الأهم، كتب فتّاح كيف يستنكر بعض النقاد خوضَ العرّافين في السياسة، لما يتسبب به ذلك من ذعرٍ وقلق.
مقالات عديدة على الإنترنت تكشف كيف أن مشاهدة العرّافين يتوقعون المستقبل أصبحت علاجاً للبنانيين في هذه البيئة المرهقة. جميعهم يؤكدون كم هو مطمئن أن تعلم المستقبل في مكان غير قابل للتوقع، لكن مؤخراً لم تعد التوقعات تهدئ الناس، ففيها الكثير من الانفجارات، الزلازل والحروب.
وقد تطرّق منتدى على الإنترنت مؤخراً إلى هذه المسألة، في جدال حول ضرورة إنهاء ظاهرة العرّافين في لبنان، لأنهم يستغلون الخوف الذي يسكن اللبنانيين. البعضُ يتعجّب كيف نال العرّافون ثقة الناس أصلاً، ويناقشون أنه يجب أن يتم منعهم من الظهور على الشاشة. أحدهم ذهب بعيداً حدّ القول بأن العرّافين لا يتنبؤون بالمصائب بل يسببونها. لكن، مرة أخرى، يردّ العرّافون بأنهم يمتلكون موهبة، ويشعرون أنه من واجبهم أن يشاركوا رؤاهم مع العالم. طبعاً، العلم يعتبر العِرافة دجلاً، هلوسة ومصادفة، لكنها ليست نتيجة قوى خارقة.
الناس، كانوا ولا زالوا، يستهلكون بحماس معتقدات ساذجة لا تقودهم إلى أي مكان
الحقيقة هي أن العِرافة تعتمد على الخداع، لكن، ومع ذلك، فإن المستقبل الذي يتخيّلونه يعزّي القلوب المرتجفة للبنانيين، الذين يصدقون مرغمين أن العرّافين يمتلكون معارف سامية منحتهم إياها الآلهة.
قنوات التلفزة تدعو العرّافين ليؤدوا أمام جمهور وليكشفوا معلومات مبنية على نزوات شخصية. في الحالة اللبنانية، رسّخوا أنفسهم كجزء من ثقافة المجتمع، فارضين خداعهم على الناس. في المقابل، الناس، كانوا ولا زالوا، يستهلكون بحماس معتقدات ساذجة لا تقودهم إلى أي مكان.