اهتزّت جدران بيروت قبل ستة أشهر، بعضها تدمر وآخر تشقق جراء انفجار المرفأ.
تشوهت المدينة، لكن الجمال يمكن أن ينبع من انكسارات أو تحطيم، هذا ما تلتقطه العيون على جدار أحد شوارع ساحة الشهداء، حيث رسمت السماء ولونت باللون الأزرق، ورغم الدخان المتصاعد من بعض الأبنية المرسومة، خرجت حمامتا سلام، بقرار متعب ومباشر، وبرزت في الوسط كلمة Hope، التي تعني باللغة الإنجليزية، “أمل”.
هذه الغرافيتي تشدّ الناظر إليها ليس فقط لجهة الألوان والإبداع، بل لما تحمل من محاولة للتمسك بما تعنيه بيروت، بخاصة وأنها تخاطب قلوب سكان بيروت المتعبة والتي تحتاج فعلاً لما يواسيها.
محيط فندق لو غراي. تصوير: صمود غزال
فن الشارع
الغرافيتي هو فن الشارع وثقافة معاصرة تنمو باستمرار وتتحول من حيث الأهمية والمعنى إلى حالات متجددة.
يغمر العديد من الفنانين/ات شوارع المدن حول العالم، تاركين روائعهم/نّ على الجدران بغية خلق بيئة إبداعية تتفاعل مع أسئلة وقصص من عمق المجتمع.
عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب، وما خلفه من أبنية مدمرة أو شبه مدمرة، تشكلت مادة “دسمة” لعشاق الغرافيتي في بيروت، الذين قرروا المساهمة في ترميم الدمار على طريقتهم الخاصة.
بحسب الفنان غياث، فإن مشاهد الدمار والضحايا جعلته يشعر بالإختناق، بخاصة عندما سيطر عليه الإحساس بالعجز عن تقديم أي مساعدة، غير ان ذلك دفعه إلى مسك عدّة الألوان والتوجه فوراً نحو المرفأ.
عقب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب، وما خلفه من أبنية مدمرة أو شبه مدمرة، تشكلت مادة “دسمة” لعشاق الغرافيتي في بيروت، الذين قرروا المساهمة في ترميم الدمار على طريقتهم الخاصة
وعن التفاصيل التي جذبت انتباهه هناك، قال غياث: “علقت في مخيلتي صورة فتاة جريحة الخدّ، فلطالما كان الأطفال نقطة ضعفي، حتى أني اخترتهم أسلوباً يميز رسوماتي، فهم يجسدون البراءة والمستقبل”، واضاف لرصيف22: “أمسكت بالريشة وبدأت برسم الطفلة وجراحات خدها على حائط يقع مقابل شركة كهرباء لبنان… استخدمت اللون الأحمر للدلالة على الدمار، كما انني لم أغفل عن رسم الأرزة، ففي نهاية المطاف أردت أن أوجه لومي وعتبي على المسؤولين الذين زرعوا القنبلة بين أطفالنا”.
واللافت ان هذه هي المرة الأولى التي يرسم فيها غياث عيون أحد الأطفال بهذا الحزن العميق، بحسب تأكيده: ” في السابق، كنت أحرص على أن أركز في عيون الأطفال على التحدي، تحديداً عند اندلاع ثورة أكتوبر/تشرين الأول في العام 2019، كان الأمل والتحدي هما سيدا الموقف”.
الثورة والحرية لبيروت
يبدو أن جراحات بيروت قد جذبت إليها ضمائر هؤلاء الفنانين، هذا ما يكشفه الفنان meuh الذي عبر البحار ليحط راحة يديه على جدران بيروت الموجوعة.
في حديثه مع موقع رصيف22، يقول متحسراً: “لم أكن موجوداً في بيروت عند انفجار الرابع من أغسطس، إلا أنني لم أستطع إلا أن أشارك في إعادة إعمار هذه المدينة الرائعة التي أمضيت بها أجمل سنين حياتي”.
ويضيف الفنان الفرنسي الذي عاش في لبنان منذ العام 2013: “كنت في فرنسا عندما وقع انفجار بيروت، غير أني عدت لأشارك بفاعلية art for beirut برسومات غرافيكية تكريماً لهذه المدينة الرائعة”.
يحاول رسامو الغرافيتي، من خلال ريشتهم وألوانهم، نفخ الروح والأمل في جدران بيروت التي ستبقى شاهدة على الويلات
يحاول meuh التعبير عن مشاعره العميقة التي يكنّها لبيروت، فيقول: “تجمعني ببيروت ذكريات جميلة، فقد جذبتني إليها بطريقة لم أستطع المقاومة. وصلت إليها عام 2013 وبدأت اكتشاف هذه المدينة الشرقية كصحافي أعمل لحسابي الخاص، وأردت أن أكوّن آرائي الخاصة والشخصية. في هذه المدينة الحيّة التقيت العديد من الفنانين اللبنانيين الذين يعشقون فنون الغرافيتي والراب، أحببت طريقة تعبيرهم عن أنفسهم وثقافتهم”.
يتابع: “في السنوات الأخيرة كنت دائم الحضور إلى بيروت لاسيما بعد أن أثقلتها الهموم والأزمات الإقتصادية والسياسية، واخترت meuh كاسم فنّي، وكتبت العديد من الكلمات بالرسوم الغرافيكية ككلمتي “ثورة” و”انتفاضة”.
وبعيداً عن نكبة بيروت الأخيرة، يرى meuh أن شارع مار مخايل هو أول الشوارع التي شكلت جدرانه مساحة للرسوم الغرافيكية، لافتاً إلى أن “فن الغرافيتي لا يزال حديثاً في بيروت، لكونه يعود للعام 2010″، على حد تعبيره.
مار مخايل. تصوير: Quetzal
كلمات صارخة تكسر صمت الجدران
من بيروت وأوضاعها وأحوالها، يستلهم فنانو الغرافيتي، أسلوبهم وأسماءهم أيضاً.
تكشف Quetzal (اسم مستعار)، إن كل فنانة لها اسمها الخاص وأسلوبها المميز، مشيرة إلى إنه قد يتعاون أكثر من فنان غرافيتي بهدف خلق قطعة معينة.
وعن علاقتها ببيروت قبل الانفجار، تقول لرصيف22: “قبل جريمة انفجار المرفأ، كانت بيروت ساحتنا، كنا ثلاثة رسامين بدأنا أول لوحة غرافيتي في ساحة الثورة في بيروت عام 2019، ولاحظنا وجود تفاعل كبير من الجيل الجديد خصوصاً في الشارع اللبناني الغاضب حيث كان الغرافيتي يعبر عن جزء من هذا الغضب”.
وتتحدث Quetzal عن أبرز ما يميّز رسوماتها، فتقول: “مجمل رسوماتي أساسها كلمات صارخة تكسر صمت الجدران في بيروت، من بينها كلمة “حرية” في مار مخايل، وكلمة “وحدة” المرسومة في منطقة الجميزة، و”حرية” أيضاً في منطقة السوديكو، والكلمة الأخيرة وهي “ثورة”.
وتشير إلى أن رسوماتها، التي وضعت فيها إحساسها بالكامل، كانت بالشراكة مع رسام فرنسي.
هذا وتصف Quetzal رسم الغرافيتي في هذه المرحلة “بالعنيف”، فهو، بحسب رأيها، “ينبت من صُلب الواقع والواقع لم يكن سهلاً”.والحقيقة إن هذه الشابة تنتمي لمجموعة فنانين من جنسيات متعددة: “بدأت مع مجموعتين في التسعينات تضم عشرات الرسامين الأوروبيين والعرب وبالتأكيد الثورة كان لها تأثيرها”.
ساحة الشهداء. تصوير: Quetzal
غرافيتي Exist: يدمج الفنون ببعضها البعض عبر الرقص والرسم في آن
من جهته، يرى الفنان Exist (اسم مستعار)، أن “الغرافيتي هو عالم يعج بالألوان، كما انه ثقافة مختلطة وممزوجة بثقافات شتى، يستطيع الفنان من خلاله أن يجول في مساحة لا تحدها عوائق ولا اختلافات”.
ويضيف لرصيف22: “هذا الفن سلس وخفيف وعميق في آن”، لافتاً إلى أن وسط هذا العالم الواسع استطاع أن يخلق لنفسه بصمة خاصة عن طريق دمج الحروف العربية بأسلوب غربي: “عوضاً أن نسلك الطرق ذاتها لنصل إلى نتيجة واحدة، نسلك مسارات مثيرة للجدل وجديدة تكون حصيلتها إنتاجاً مبتكراً يعبر عن هوية كل فنان وثقافته”.
وعن تجربته الشخصية في عالم الغرافيتي يقول Exist: “منذ ثماني سنوات وأنا أمارس رسم الغرافيتي. درست تصميم الغرافيك ودخلت إلى هذا العالم عبر موسيقى الهيب هوب، وجدت أن هذا الفن يلخص الواقع ويدمج الفنون ببعضها البعض عبر الرقص والرسم في آن”.
ويتابع بالقول: “من هنا كانت الانطلاقة، ولكن البداية الفعلية كانت من داخلي ومن الرغبة التي كانت تملكتني لاكتشاف العلاقة التي تربط المصمم بتصاميمه، وكيف تخرج من داخله إلى فضاء الجرائد والمجلات والجدران. ولاحقاً أثارت اهتمامي الأحرف اللاتينية ودمجها مع العربية وانطلقت مسيرة عملي عبر خلق أسلوبي الخاص”.
أما عن علاقته بالشارع، فيقول: “الجدران هي بمثابة معرض عام لأعمالي أشارك بها الجميع. الرسومات ليست ملكي وحدي، بل اتشاركها مع أعين الناظرين إليها فهم جزء من الجدارية، التي هي مساحة مفتوحة أمام الجميع وأمام اختلاف آراءهم سواء للإعجاب أو النقد”.
الجميزة.تصوير: Quetzal
لا ملكية خاصة بالغرافيتي
تمتزج الألوان، تختلط المشاعر وتنسكب جميعها على أحد الجدران. هنا لا وسيط بين الرسام والإبداع، بين المشاعر والأفكار، بين الريشة وأصابع اليد، بين الحواس والباطن، المهم أن يحقق رسام الغرافيتي ذاته.
فبحسب الفنانة كارين، فإن “الغرافيتي يتيح فرصة إخراج أعماق النفس البشرية على شكل رسومات نابعة من داخلنا المغلق”.
وتضيف لرصيف22: “هذه الرسومات تعطي أحاسيس جديدة إما للرسام أو للمارة، فقبل رؤيتها وتأملها وما بعدهما يختلف الشعور، لأنها ببساطة تنقل إحساساً جديداً من الذات للآخر”.
هذا وتشدد كارين على “أن الرسومات على جدران الشارع هي ملك للرسام ولرواد الشارع، وليست ملكاً خاصاً”، مشيرة إلى ان “الرسومات تخضع لتغييرات عديدة من قبل المارين أو فنانين آخرين يجمعهم خيط رفيع من الشعور والتعبير”.
يتميّز غرافيتي كارين بأنه رسم بخط واحد دون انقطاع، تخيط به تجربة سكان بيروت. وجوه مختلفة، لا تشي سماتها إلا بدهشة، تشبكها كارين معًا، وتضع ما عاشه كلّ منها بعد تجربة الانفجار، في حالة جامعة مشتركة.
تصوير: كارن
باب من الضوء
في حديثه مع موقع رصيف22، أوضح الفنان علي رافعي أنه “في لبنان وخارجه هناك أسماء فنانين عديدة لها أنماط مختلفة ومتنوعة باتت رسوماتهم تعرّف عنهم، ومن بينهم غرافيتي لإحدى الرسامات حيث جعلت من حائط مجلس النواب الصامت باباً من ضوء، يخيّل الينا أحياناً بأنه مفتوح أمام الثوار في جولات الكر والفر”.
تمتزج الألوان، تختلط المشاعر وتنسكب جميعها على أحد الجدران. هنا لا وسيط بين الرسام والإبداع، بين المشاعر والأفكار، بين الريشة وأصابع اليد، بين الحواس والباطن، المهم أن يحقق رسام الغرافيتي ذاته
وعن كيفية تأثر فن الغرافيتي بالثورة اللبنانية، قال رافعي: “بالتأكيد كانت الثورة جزءاً من الغرافيتي السياسية والأوضاع الحالية، استطعت فيها التعبير عن نفسي، قبل وقوع الانفجار الكارثة”.
وعن تجربته مع هذا النوع من الفنون، قال علي: “بدأت رحلتي مع الغرافيتي من العام 2010، بأوقات متقطعة كمجرد هواية، إلا أنني امتهنتها في العام 2015”.
وكحال معظم الفنون في لبنان، شدد علي رافعي على أن “الغرافيتي ما بطعمي خبز خصوصاً في البلدان العربية، ولكن الأحداث في لبنان فرضت نفسها علينا كرسامين”، على حدّ تعبيره.
“بيروت خيمتُنا الوحيدة، بيروت نجمتُنا الأخيرة…أعطينا جداراً واحدًا لنصيح يا بيروتُ”، بهذه الكلمات رثى محمود درويش “ست الدنيا”، وتلقفها رسامو الغرافيتي وحاولوا، من خلال ريشتهم وألوانهم، نفخ الروح والأمل في جدرانها التي ستبقى شاهدة على الويلات.