نقول إننا في بيروت من أجل العمل ولأن البلد يفرض علينا البقاء هنا، لكن في الحقيقة، ما خرجنا منها يوماً إلا وعُدنا.
هناك طبعاً هؤلاء الذين لم يحبوا بيروت يوماً، ومن هجروها نهائياً بعد تجربتهم معها، وأحد الأسباب هو أن الحياة في هذه المدينة تأتي مع صعوباتها الخاصّة.
مدينة التناقضات
كل الذين استقرّوا في بيروت قبل سنوات وحتى اليوم، يحترفون التعامل مع تناقضاتها، فهذه المدينة الصغيرة جداً تقدّم كل شي وتأخذ كل شيء، في الوقت عينه.
لبيروت وحدتها الصارخة وسط الاكتظاظ، فهي، بمرحلة أو بأخرى، تحرمنا من فرديتنا وتغرينا فتفرض علينا الاندماج بأجوائها العامّة، كي تعطينا الانتماء بطريقة أو بأخرى، وعلى الرغم من ذلك، غالباً ما نجد الوحدة تنتظرنا فور رجوعنا إلى منازلنا، فنعود إلى الشارع لنصادف كل من نعرفهم أو نحبهم، ونتكل على المساحة العامة نفسها التي غالباً ما نقرّر الهروب منها.
كل الذين استقرّوا في بيروت قبل سنوات وحتى اليوم، يحترفون التعامل مع تناقضاتها، فهذه المدينة الصغيرة جداً تقدّم كل شي وتأخذ كل شيء، في الوقت عينه
لبيروت أيضاً طريقتها الخاصّة بجمع الغرباء، فبإمكان ليلة عادية أن تتحوّل إلى صدفة تجمع شخصين ما كانا ليلتقيا يوماً، وبإمكان “مشوار” سريع إلى الدكان لشراء غرض ما، أن يتحوّل إلى نهار كامل في المقهى مع مجموعة من المعارف والأصدقاء، ولليلة يسابقون فيها الفجر نحو أماكن يعرفون توقيتها لأنهم لا يرغبون بالعودة إلى المنزل.
هكذا كانت بيروت قبل عام وأكثر، مدينة إذا أردنا التحدّث عنها بواقعية، نقول إنها متناقضة، ولا تقدّم أبعد من كل ما ذكرناه. كان لسكّانها حياة شبه واضحة بين المنزل، العمل والأماكن التي تعوّض نوعاً ما عن غياب المساحات العامّة، بالرقص الدائم والسهر والأحاديث التي لا تنتهي، فالناس وأماكنهم هم من يصنعون بيروت، وإذا ما جرّدناها منهم تصبح غير قابلة للحياة.
النزوح إلى القرى
حين لاحت بوادر الانهيار الاقتصادي بدأت المحال بالتصفية العامة وخسر الكثير من الأفراد وظائفهم، ومن ثم تمّ إقرار الإقفال العام بسبب تفشي وباء كورونا.
وفي تلك الفترة تبيّن لسكان العاصمة أن الحجر فيها من أصعب ما يمكن اختباره من الناحية المادية والجسدية على حدّ سواء، ولذلك ارتفعت نسبة النزوح من بيروت إلى القرى.
يحكي حسين، 27 عاماً، كيف عاد إلى قريته الجنوبية قبل حوالي العام، حين فقد وظيفته الثابتة ولم يستطع إنقاذ نفسه من الانهيار الاقتصادي.
ويقول الشاب الذي يعمل في مجال التصوير: “في المراهقة، كان الانتقال إلى بيروت مرادفاً للنجاح المهني وللحرية، وما اختبرته في سنواتي الـ 8 هناك كان استثنائياً، لكن في الأعوام الأخيرة كنت أصرف وقتي وطاقتي دون أي مردود فعلي، ولا أقصد فقط المردود المادي، فشيء ما فُقد في بيروت حتى قبل الانهيار الاقتصادي، حين لم يعد لدينا خطة واضحة تقودنا نحو مستقبلنا”.
من حق الذين تعبوا أن يرحلوا، حين يجدون أنه لم يتبق لهم شيء من مدينتهم
ويضيف لموقع رصيف22: “ربما لو لم أخسر كل شيء لكنت قد بقيت سنة إضافية، لأن العودة إلى القرية دائماً ما كانت مرادفة للفشل، لكني الآن وبعد سنة كاملة بعيداً عن بيروت، أعترف أنني بحال أفضل مما كنت عليه في السابق، وربما السبب هو أنني حين اختبرتها، لم أجد تلك العاصمة التي سمعت في صغري أنها تقدّم كل شيء لقاصديها”.
البحث عن ملجأ في الأطراف
تفرض بيروت على الشباب بطريقة أو بأخرى أن يقصدوها، إما لإكمال تعليمهم الجامعي، للحصول على الوظيفة المناسبة أو حتى بحثاً عن الحرية والفردية.
ومع فقدان الوظيفة بسبب الانهيار الاقتصادي وحرية التحرك وحتى الخروج من المنزل، وجد الشباب ملجأهم في الأشهر السابقة في الأطراف، المدن الصغيرة والقرى.
تشرح ليليان (اسم مستعار) كيف كانت قد خططت للانتقال إلى بيروت بعد ترقيتها في وظيفتها، إلا أنه وبسبب تفشي وباء كورونا وطرد عدد كبير من الموظفين، تمّ نقلها إلى الجنوب.
وفي هذا الصدد، تقول الموظفة في إحدى الجمعيات المعنية بتعليم الأطفال، والبالغة من العمر 28 عاماً: “أسعى منذ حوالي الـ 3 سنوات للانتقال من مدينة صور إلى بيروت من خلال وظيفتي، أولاً لكي أحصل على ترقية، وثانياً من أجل الاستقرار في منزلي الزوجي، كان من المفترض إتمام كل هذه الخطط خلال العام الماضي، لكن وبسبب كل الأحداث، تم صرف أكبر عدد من الموظفين في بيروت وتوزيعهم على الأفرع المتبقية في كل المناطق”.
بيروت مدينة يهدمها الحكّام ويبنيها الناس
وتضيف لرصيف22: “خطوة العيش في بيروت مرتبطة باستقراري الشخصي، فكل علاقاتي التي كوّنتها موجودة في هذا المكان، ومستقبلي أيضاً. اليوم، عدت واستقريت في الجنوب، لأن بيروت غير قادرة على استقبالنا وتأمين لقمة عيشنا”.
تحوّل المدينة إلى سجن
كل الأمل الذي كان قد تبقّى تجاه بيروت بعد الانهيار الاقتصادي وإحباط ثورة 17 تشرين وتفشّي وباء كورونا، تم هدمه من خلال الانفجار الذي سبّبته المنظومة الحاكمة، فوجد الناس أنفسهم بلا أدنى مقومات العيش.
لبيروت وحدتها الصارخة وسط الاكتظاظ، فهي، بمرحلة أو بأخرى، تحرمنا من فرديتنا وتغرينا فتفرض علينا الاندماج بأجوائها العامّة، كي تمنحنا الشعور بالانتماء بطريقة أو بأخرى، وعلى الرغم من ذلك، غالباً ما نجد الوحدة تنتظرنا فور رجوعنا إلى منازلنا
في المنازل التي تضررت، بقيت العائلات التي لا مكان لها لتقصده، ورحل كل من استطاع أن يجد بديلاً، وخليل، 33 عاماً، كان واحداً من الآلاف الذين خسروا منازلهم بسبب التفجير.
ويخبر ما حدث معه لرصيف22: “خسرت منزلي الواقع في محلّة الجميزة بعد حدوث الانفجار، وانتظرت حتى اليوم الثاني لأقصده وأجلب أغراضي، ومنذ تلك اللحظة لم أعد إليه سوى لترميمه”.
رغم أن خليل ولد في بيروت ويعمل فيها، إلاّ أنه قرّر النزوح منها نحو الجبل، لأن المدينة، وبحسب قوله، تحوّلت إلى سجن: “كان قد تبقى لنا بضعة أماكن نقصدها، ومنازلنا التي كنّا نحسبها آمنة، لكن حين وقع الانفجار شعرت أنني أساوم على كل مستقبلي وراحتي النفسية، بهدف الحفاظ على الحياة التي كنت اعتدتها وصنعتها في بيروت، الحياة التي سُلبت منّا”.
ويختم بالقول: “اكتشفت خلال فترة الحجر كم أن هذه المدينة خانقة، بمعيشتها، بغياب مساحاتها العامة، وبالانقطاع الدائم للمياه والكهرباء. وأننا نحن الذين نعيش داخل بيوت لا نتمكن من رؤية السماء من على شرفاتها، ولذلك رحلت، لأنني كدت أخسر حياتي فيها، ولا أريد أن أخسر ما تبقى من صحّتي النفسية”.
في نهاية المطاف، أضحى من المسلّم به أن نعترف، نحن الذين نحب هذه المدينة، أننا خسرنا الكثير منها، وبالتالي خسرنا الكثير من أنفسنا.
بيروت اليوم، وبسبب كل ما يحدث على الصعيدين العالمي والمحلي كشفت لنا عن صلبها، ورأينا أن هذه المدينة يهدمها الحكّام ويبنيها الناس، الأمر الذي تبلور بعد الانفجار، حين هرع الأفراد من كل المناطق إلى شوارعها للملمة ما سبّبته الدولة، واكتشفنا أيضاً، أننا طوال هذه السنوات كنا نقف بوجه كل من يسلبها منا وندافع عن أجزائها، وأنه من حق الذين تعبوا أن يرحلوا، حين يجدون أنه لم يتبق لهم شيء من مدينتهم.
صورة المقال من رسومات كارن مزوق، فنانة مساهمة في مشروع “بيروت بلا نوافذ”.