يُعوّل العديد من اللبنانيين على الانتخابات النيابية القادمة لتغيير المنظومة السياسية. اللافت أنّ الطبقة الحاكمة أيضاً تعوّل على الانتخابات لتجديد طاقمها السياسي وشرعيّتها المفقودة. فعلتْها في انتخابات العام 2018، فضمّ المجلس 64 نائباً منتخبين للمرّة الأولى (من أصل 128). وستفعلها مجدّداً في العام 2022.
إذا صحّت هذه المعادلة، تسقط حجة أساسية لخوض الانتخابات – تحديداً من قبل مجموعات الاعتراض – وهي الحجّة المتعلّقة بضرورة التخلّص من المنظومة. فالمنظومة هي المتحوّل، أي أشخاص يتبدّلون، أمّا النظام – أي عملية اشتغال السياسة وتحكّمها في المجتمع – فهو الثابت.
فأي مغزى للانتخابات النيابية في عز الانهيار المجتمعي غير المسبوق على ضوء الأزمة الاقتصادية والمالية؟ المغزى يكمن في السياسة، أي في تحديد الطروحات لإدارة الخلافات في المجتمع، وليس في الإصلاحات التقنية المنشودة. بعبارة أخرى، تقدّم الانتخابات فرصة ثمينة لفتح النقاش – على ضوء ما آلت إليه أوضاع المجتمع اللبناني – حول كيفية العيش والاستمرار معاً بالرغم من الخلافات الجوهرية. أمّا مقاربتها من باب استلام السلطة حصراً، فسيؤدي إلى إضفاء شرعية مؤسساتية وشعبية على النظام كان قد خسرها بعد احتجاجات العام 2019.
الانتخابات كفرصة للمجتمع
الانتخابات النيابية ليست مجرّد مسألة عدّ أصوات وقوانين انتخابية. إنّها، أوّلاً وأخيراً، مساحة يُفتَح فيها النقاش العام حول مسائل أساسية تتعلّق بشؤون المجتمع وعلاقة مكوّناته ببعضها بعضاً، وحول دور الدولة والمؤسسات في إدارة الخلافات وتنظيمها.
على ضوء انهيار مجتمعي قاسٍ جداً كالذي نعيشه، تبدو الفرصة سانحة لإعادة التفكير في كيفية إنقاذ المجتمع، أو أقلّه إيقاف انهياره وتفتّته، وفي إعادة رسم عناوين عريضة لتشكّل عقد اجتماعي جديد يؤدّي – في المدى القريب – الى الإجابة على سؤال واحد: كيف يمكننا العيش معاً بالرغم من خلافاتنا الجوهرية، وكيف لنا مقاربتها من خلال المؤسسات الرسمية وليس خارجها، سلمياً وليس بالعنف؟ وبالتالي كيف يمكن الخروج من القعر الذي وقع البلد فيه؟
كان يمكن للانتخابات – وهذا ما زال قائماً – أن تشكّل مساحة لفتح نقاش أساسي حول عقد اجتماعي جديد. بني تاريخياً العقد الاجتماعي في لبنان على «العيش المشترك بين الطوائف» من خلال إعطاء حقوق لهذه الأخيرة (تمثيلية وغير…)، واللحظة متاحة اليوم لكي يُعاد التفكير في العيش المشترك لا بين الطوائف والجماعات فحسب، لكن أيضاً بين الأفراد على مبدأ التساوي في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
والعقد الاجتماعي المنشود لا ينبغي أن يصبو إلى «توحيد اللبنانيين»، ولا هو وصفة سحرية تقدّم حلولاً لجميع المشاكل. العقد الاجتماعي هو نتاج لصراعات بين خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية تكون محطة نقاش، ولانقسامات بين أفراد المجتمع لا تؤدي إلى الاقتتال ولا ترسخ استحالة التعايش. هذه الصراعات والانقسامات التي نسمّيها خيارات، عليها أن تفرز قوى سياسية تدافع عنها وتصبو إلى تحقيقها.
من هنا، ليست «وحدة الصفّ» المنشودة لقوى الاعتراض المدخل لإنقاذ المجتمع من النظام. المدخل للإنقاذ هو التنوّع في الطروحات، ليس حول كيفية التخلص من المنظومة، بل حول الرؤى المتنوعة للمجتمع. هكذا يجب أن تخاض الانتخابات الهادفة: من خلال مقاربة شاملة للعلاقة بين المجتمع والدولة، وليس من خلال مقاربات محلية تأخذ أحياناً طابعاً مناطقياً ضيقاً؛ وخصوصاً، ليس من خلال التركيز على الأصوات أو المرشّحين فقط.
الانتخابات كفرصة للنظام
إلا إنّه وفي ظل الخطاب المتنامي (الذي حيّد على ما يبدو المسألة الاقتصادية تدريجياً بحجة أولوية تحقيق السيادة كمدخل لحل شامل للمعضلة اللبنانية، أو ربط الاستحقاق الانتخابي بمصير المنطقة والسلاح…)، يبدو أننا متّجهين إلى انتخابات ترسّخ الانقسام المجتمعي والسياسي، وتمنع إمكانية التفكير في إنتاج مساحة مشتركة لنا جميعاً يتكون من خلالها العقد الاجتماعي الجديد.
ففي قراءة سريعة لقوى الانتخابات (إن من الطبقة السياسية او من مجموعات الاعتراض) نرى حالياً أنّ معظم (أو أكثريّة) مجموعات الاعتراض هي في موقع الهجوم على المنظومة، بينما يقبع النظام في موقع «الصامت» إلى حين إطلالته دفاعاً عن نفسه. ستكون الإطلالة هذه ذات بُعد وجودي، وقد بدأها حزب الله من خلال إظهار الاستحقاق الانتخابي بصفته «حرب تموز» سياسية، وسيكمّلها الآخرون، كلٌّ بأدواته وخطاباته الهوياتية.
عوضاً من أن تكون الانتخابات القادمة مساحة للتفكير في عقد اجتماعي جديد، تأتي اليوم الانتخابات — على ما يبدو — لترسخ الانقسامات على مبدأ استحالة التعايش بين لاعبيها. فلا سياسة واضحة في هذه الانتخابات حتى الآن، غير سياسة المحاور والصراع الوجودي، بينما يتفكك المجتمع تحت وطأة الصعوبات اليومية الاقتصادية والاجتماعية والصحية.
ليست الغاية ممّا سبق تهديم الحيطان، بل مناسبة لطرح سؤال جدّي لا بد من طرحه. بربّكم، ما هو الأفضل: أن تُخاض الانتخابات على اساس «اعتراض» (ما زال ينقصنا الكثير لنرتقي إلى مستوى المعارضة) ضدّ «منظومة» (وما تعني المنظومة أصلاً عندما نحيّد النظام؟)، أم أن تُخاض كوسيلة للتفكير بنظام جديد يؤمّن العيش الكريم بالرغم من الاختلافات؟ واستطراداً، هل شرط هذه المعركة متوفّر أصلاً في غياب بنى سياسية معارضة متينة تحمل هذه الطروحات؟ وعليه، يفرض السؤال التالي نفسه: ما المغزى من الانتخابات، إذاً؟
الانتخابات هي يوم ما بعد الانتخابات
ليست إنتخابات اليوم هدفاً نهائياً، ولا برامج لتقديم حلول تشريعية أو تقنية، وليست فرصة لا ثاني لها. ولو قاربناها فقط من باب الربح والخسارة، من السهل أن نتوقع نتائجها السياسية، بغضّ النظر عن نتائجها الانتخابية. فبغياب تصوّرات تحملها بنى سياسية متأصّلة حول المجتمع ومبادئ العقد الاجتماعي، يبدو أخطر ما في هذه الانتخابات أنّها قد تفرز فائزين «معارضين»، لكنها لن تفرز مشاريع بديلة عن تلك التي سيقدّمها أهل النظام. فهل نحن متّجهون – كما تدار الحملات الانتخابية حالياً – إلى تشكّل جسم «معارض» (بغض النظر عن عدد النواب الفائزين باسم الاعتراض)، يفرض نفسه على طاولة الحوار (لا مفرّ منها وآتية لا محالة) لنسج نظام وعقد اجتماعي جديد؟
مقاربة الانتخابات حصراً من خلال الائتلافات المحلية او المشاريع العامة او التجارب الديموقراطية الرمزية، من دون تقديم تصوّر واحد ليوم ما بعد الانتخابات، هي حتماً (وللأسف) إعطاء صك براءة مجاني لنظام فقد شرعيته الشعبية والمؤسساتية. النظام مات، لكنه ما زال مسيطراً. ففي حال خيضت الانتخابات على أساس الهويات والمشاريع الوجودية، من دون نقاش جدي حول آليات العيش معاً وحل الخلافات، نحن متّجهون حتماً إلى انتخابات يجدّد من خلالها النظام شرعيته، وسيصرف صك البراءة الممنوح له عندما يحين الوقت إمّا في اقتتال داخلي أو تقسيمات (تترجم استحالة العيش بين اللبنانيين) أو في تسوية بتوازنات مستحدثة (تؤمّن حياة جديدة للنظام). فهل نريد المساهمة من خلال المشاركة الانتخابية في إضفاء شرعية للنظام محلية ودولية (بمرحلة أولى)، على أن يستعيد (بمرحلة ثانية) الشرعية العربية بعد تبلور تفاوض إقليمي ما؟
قالها أركان النظام بعد احتجاجات 17 تشرين: ماذا فعلت الثورة؟ لا شيء. سيقولونها أيضاً بعد الانتخابات: ترشّحتم على الانتخابات، لديكم نائب أو عشرة؟ وماذا الآن؟. حينها، سندفع الثمن جميعنا، معارضين او موالين أو لا مبالين، لبنانيين أو مقيمين. لا فرق.