لم يكن الحجر الأخير سهلاً على الإطلاق، وهو حجر من غير العادل أن يُقارن بالأوّل لعدّة أسباب، منها أنه الثالث أو الرابع حتى الآن (صعب عليّ التحديد في دولة تتردد دوماً بين الإغلاق أو عدمه)، ولقد استهلكنا الكثير من طاقتنا على الصبر والتحمل، ثم على التكيّف وإعادته.
وثانياً لأنه أتى بعد انفجار أمّ القنابل الذي وقع في مرفأ بيروت، فأدّى إلى دمار غير مسبوق للمدينة، بفعل تلازم السرعة والقوّة في آن، وحدها الصوامع الاسمنتية الغليظة وبحر المتوسط المفتوح حالا دون دمار كامل العاصمة، بفضل امتصاصهما للجزء الأكبر من العصف الرهيب.
حجر وحزن
إنه إذن حجر على حزن لم يدمل جرحه بعد، على غضب مكبوت، إذ مرّت أشهر طويلة ولم نسمع من السلطة ولو تسمية جادة لمتهمين محتملين في الجريمة، واقعيين أو منطقيين. العكس صحيح، لأن وقاحة الزعماء وأزلامهم تزيد وتستفحل في المخالفات وآخرها كان مخالفة وزير الصحة “حمد حسن” لقرار المخالطة الاجتماعية والتسكير، عندما أقدم على قطع قالب كاتو في سوق بعلبك، وبدت المحلات فاتحة أبوابها من ورائه في الفيديو والصور، كأنها خارج الدولة العليّة.
نعم، فعلها المسؤول في زمن كورونا، مخالفاً بذلك تعليماته لنا. والمناسبة؟ الاحتفال بعيد ميلاد أمين عام أكبر حزب طائفي بلبنان، وهو يضعه في “بوز مدفع”، صراعات تعتبرها فئات واسعة من الشعب لا تعنيها لا من قريب ولا بعيد، وترفض دفع أثماناً باهظة لها.
حصل صراحة خلال آخر أيّام ذاك الحجر، 28/11/2020″. وما يثير حقاً الاستياء ليس تلك الحادثة بحدّ ذاتها، بل الفكرة من ورائها، مربوطة بتكرارات صورها وكيف تُطبق القوانين في بلادنا من أجل أن “تربي” الأضعف حصراً، ليجلس “عاقلاً”، “مهذّباً” و”يسمع الكلمة”، مُقطعاً الوقت بمشاهدة الأجساد تُسلب أطرافها، أرواحها، جنى أعمارها وسقوف أمانها التي قد تكون وحيدة.
عم، أطل الحجر الأخير خصوصاً على جسد وعقل مجهدين تماماً. والمفارقة أن الأوّل قد شُلّ تقريباً فما عادت الأنامل تقوى على نقر أزرار الكيبورد، بينما لم يتعطل الثاني عن التفكير، واصلاً الليل بالنهار، محتفياً بعد كل دورة 24 ساعة، كما بمرور وِحدة عقاب داخل زنزانة غرفة معيشة، نوم أو طعام. أمسى الجسم والفكر مثل بحيرة مترامية الأطراف، سطحها رقراق، تجاور بصمت مهيب مصنعاً عملاقاً لا يهدأ: يذوّب الأفكار تذويباً، يصهرها صهراً ويصبها داخل قوالب فراغ الذاكرة اللامتناهي.
“الكتابة والرسم ضيفان خفيفان مزاجيان، يحلّان علينا متى شاءا أو اشتاقا لنا، وما لنا إلّا أن نفتح لهما الباب بشغف وأناقة عندما يقرعان”
العلاج بالكتابة والرسم
في البداية، كان تعويض عدم القدرة على تفريغ نص من حروف، كلمات فجُمل، فوق بياض الشاشة، بمطالعة روايتين حديثتين مجموعة قصص قصيرة لـ “إيملي نصر الله“ والبحث عن كتب نادرة لـ “محيّ الدين اللبّاد” من فئة الألبومات المصوّرة، تحدياً تلك التي تُلتهم بالعيون قبل المطالعة الحقّة، لشدّة روعة ودقة المواد البصرية فيها.
ثم خرج الرسم ليرافق هذه المرحلة، وهو على النحو الذي اكتشفته به، نشاط يعكس دواخلي الخاصة أكثر من الخارج العام. من هنا تحديداً، لاحظت منذ وقوع انفجار بيروت أني ما عدت أختار سوى أكبر كانڨاس أجدها في المكتبة (80*120)، بعدها مباشرة، أنهي عليها رسمي بوقت قصير مقارنة مع أعمالي السابقة التي كان يأخذ مني إنجازها مراحل مضنيّة وممتدة. وفهمت رويداً رويداً أني بهذه الطريقة أكرر تشكيل الحادثة المرعبة التي غيّرت وجه بيروت وحياة السكّان فيها، بما لا يطمئن بالمُطلق على صعيد الموَاطَنة والحريات: يحدث أن أتلصص افتراضياً على المجتمعات القريبة، فأقلق وأخاف من فكرة أن انتقاص شبر واحد من نهاية ثوب “محتشم” في منشور دعائي ولّد وابلاً من التوبيخ والتخوين، لم ينته حتى مع الاعتذار من محل الألبسة، على العكس: تضاعفت تعليقات الكراهية كماً ونوعاً.
وعن ثيمة اللوحات، هي تبلورت مع التقدم بالحجر وكانت حول فن حيطان الشارع، تعبيراً عن حبي وشوقي للمكان الممنوع. وما حرمني حقيقة من السير في شرايين قريتي المدنيّة، أو مدينتي القروية، ليس الجائحة وحدها فحسب، بل أيضاً كل الأذى الذي صوّبته السلطة نحوها، وتركّز مع انطلاق ثورة 17 تشرين المجيدة. هذا لأن تفقير الدولة الممنهج للناس، وتفريغ المؤسسات الرسمية من كافة أدوارها الرئيسية، جعل المشهد البيروتي بانوراما حزينة وبائسة، ولقد لاحت الحاجة لوضع الكمامة أثناء التواجد في الأحياء الراقية كما الحواري الشعبية، بهدف الحدّ من تنشق روائح النفايات خلال فترة سبقت بخمس سنوات ظهور الفيروس المُستجد، وأطلقت حراكاً شعبياً واسعاً ومتنوع الأطياف.
“خرجت لوحاتي وفق سياقها الكرونولوجي شبيهة بقضبان بوابات سجون، تتبدد شيئاً فشيئاً، تترك مساحة أوسع فأوسع للون الفسفوري المبهج، ويجمعها كلها كليشيه “Enjoy Life”، بكل ما يطرحه الشعار من تخبطات بين الوهم الحلو والواقع المرّ”
بموازاة للرسم، مارست تمريناً نفسياً، يومياً وبسيطاً، يقوم على كتابة جملة معيّنة تعزز حب الذات والانعتاق المتدرج من آراء المجتمع وأحكامه.
خرجت لوحاتي وفق سياقها الكرونولوجي شبيهة بقضبان بوابات سجون، تتبدد شيئاً فشيئاً، تترك مساحة أوسع فأوسع للون الفسفوري المبهج، ويجمعها كلها كليشيه “Enjoy Life”، بكل ما يطرحه الشعار من تخبطات بين الوهم الحلو والواقع المرّ.
صعب أن يكتب الإنسان أو يرسم حسب نظام مواظبة لا يختل توازنه، لأن الكتابة والرسم مثل ضيفين خفيفين لكن مزاجيين، يحلان علينا متى شاءا أو اشتاقا لنا، بالمفرد أو المثنى، لذا يكفي أن نفتح لهما الباب بشغف وأناقة عندما يقرعان، بلا شروط إلا صدق المشاعر والحريّة.